سورة غافر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


قلت: {الذين يُجادلون}: بدل من الموصول قبله المجرور، أو: رفع، أو: نصب على الذم.
يقول الحق جلّ جلاله: {أَلَمْ تَرَ إِلى الذين يُجادلون في آيات الله}، كرر الحق تعالى الجدال في هذه السورة ثلاث مرات، فإما أن يكون في ثلاث طوائف: الأول في قوم فرعون، والثاني في اليهود، والثالث في المشركين، وإما للتأكيد، أي: انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آيات الله الواضحة، الموجبة للإيمان بها، الزاجرة عن الجدال فيها، {أَنَّى يُصْرَفُون} أي: كيف يُصرفون عنها، مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها، وانتفاء الصوارف عنها بالكلية.
وهذا تعجيب من أحوالهم الركيكة، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن، أو بسائر الكتب والشرائع، كما أبانه بقوله: {الذي كذَّبوا بالكتاب} أي: بالقرآن، أو: بجنس الكتب السماوية، {وبما أرسلنا به رسلنا} من سائر الكتب، أو: الوحي، أو: الشرائع، {فسوف يعلمون} عاقبة ما فعلوا من الجدال والتكذيب، عند مشاهدتهم لأنواع العقوبات.
{إِذِ الأغلالُ في أعناقهم} أي: سوف يعلمون حين تكون الأغلال في أعناقهم. و {إذ}: ظرف للماضي، والمراد به هنا: الاستقبال؛ لأن الأمور المستقبلة لَمّا كانت محققة الوقوع، مقطوعاً بها، عبّر بما كان ووُجد. {و} في أعناقهم أيضاً {السلاسلُ}. وفي تفسير ابن عرفة: ولا يجوز مثل ذلك في العقوبات الدنيوية، وقياسه على العقوبات الأخروية خطأ، وفاعله مخطىء غاية الخطأ، ولم يذكر الأئمة في اعتقال المحبوس للقتل؛ إلا أنه يجعل القيد من الحديد في رِجْلِه، خيفة أن يهرب، وأما عنقه فلا يُجعل فيه شيء. اهـ. {يُسْحَبون في الحميم} أي: يُجرّون في الماء الحارّ، وهو استئناف بياني، كأن قائلاً قال: فماذا يكون حالهم بعد ذلك؟ فقال: يُسحبون في الحميم، {ثم في النار يُسْجَرُون} ويُحرقون، من سَجَر التنّور: إذا ملأه بالوقود، والمراد: أنهم يُعذبون بأنواع العذاب، ويُنقلون من لون إلى لون.
{ثم قيلَ لهم أين ما كنتم تُشركون من دون الله قالوا ضَلُّوا عنا} أي: غابوا، وهذا قبل أن يُقرن بهم آلهتهم، أو: ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم، {بل لم نكن ندعو من قبلُ شيئاً} أي: تبيّن لنا أنهم لم يكونوا شيئاً. أو: يكون إنكاراً منهم، كقولهم: {واللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]. وهذا كله مستقبل عبّر عنه بالماضي لتحققه. {كذلك} أي: مثل ذلك الضلال الفظيع {يُضل الله الكافرين} حيث لا يهتدون إلى شيء ينفعهم في الآخرة، أو: كما ضلّ عنهم آلهتهم يُضلهم الله عن آلهتهم، حتى لو تطالبوا لم يتصادفوا.
{ذلكم} الإضلال {بما كنتم تفرحون في الأرض} أي: تبطرون وتتكبرون {بغير الحق}، بل بالشرك والطغيان، {وبما كنتم تمرحون}؛ تفخرون وتختالون، أو: تتكبرون وتعجبون.
والالتفات إلى الخطاب؛ للمبالغة في التوبيخ. فيقال لهم: {ادْخُلوا أبوابَ جهنَّم} أي: أبوابها السبعة المقسومة عليكم {خالدين فيها} مقدّراً خلودكم فيها، {فبئسَ مثوى المتكبرين} عن الحق، والمخصوص محذوف، أي: جهنّم.
الإشارة: الأولياء العارفون أهل التربية الكاملة، آية من آيات الله في كل زمان، فيقال في حق مَن يُخاصم في وجوههم، ويتنكّب عن صحبتهم: الذين يُجادلون في آيات الله أنَّى يُصرفون؟ وهم الذين كذَّبوا بأسرار الكتاب، وعلوم باطنه، وبما أرسل به خلفاء الرسل، ممن يغوص على تلك الأسرار، فسوف يعلمون حين تخاطبهم أغلال الوساوس والخواطر، وسلاسل العلائق والشواغل، فيقبضهم عن النهوض إلى قضاء الشهود والعيان، وجولان الفكرة في أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، يُسحبون في حرّ التدبير والاختيار، ثم في نار القطيعة يُسْجَرون، ثم قيل لهم إذا ماتوا: أين ما كنتم تُشركون في المحبة والميل من دون الله؟ قالوا: ضلُّوا عنا، وغاب عنهم كل ما تمتعوا به من الحظوظ والشهوات، فيقال لهم: ذلكم بما كنتم تنبسطون في الدنيا في أنواع المآكل، والمشارب، والملابس، والمناكح، وبما كنتم تفتخرون على الناس، فيخلدون في الحجاب، إلا في وقت مخصوص. وبالله التوفيق.


يقول الحق جلّ جلاله: {فاصبرْ} يا محمد على أذى قومك، وانتظر ما يلاقوا مما أُعِد لهم. {إِنَّ وعدَ الله} بإهلاكهم وتعذيبهم {حقٌّ}؛ كائن لا محالة، {فإِما نُريَنَّكَ بعضَ الذي نَعِدُهُم} من الهلاك، كالقتل والأسر في حياتك، {أوْ نتوفينّك} قبل هلاكهم بعدك، {فإِلينا يُرجعون} لا محالة، ف {ما}: صلة بعد {أن}، لتأكيد الشرطية، والجواب: محذوف، أي: فإن نُرينك بعض ما نعدهم فذاك، أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يُرجعون يوم القيامة، فلننتقم منهم أشد الانتقام.
ثم سلاّه بمَن قبله، فقال: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك} فأُوذوا وصبروا حتى جاءهم نصرنا، {منهم مَن قَصصْنا عليك} في القرآن، {ومنهم مَن لم نقصصْ عليك}، قيل: عدد الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعمائة وعشرون ألفاً، والمذكور قصصهم في القرآن أفراد معدودة. قال الطيبي: والصحيح ما روينا عن أحمد بن حنبل، عن أبي ذر، قلت: يا رسول الله، كم عدد الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّاً غفيراً». اهـ. وقد تكلم في الحديث بالضعف والصحة والوضع، وقيل: عدتهم ثمانية آلاف، أربعة آلاف نبيّ من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس. وعن عليّ كرّم الله وجهه: «إنه الله تعالى بعث نبيّاً أسود، فهو ممن لم تُذكر قصته في القرآن». فقوله تعالى: {ومنهم مَن لم نقصص عليك} أي: في القرآن، فلا ينافي إخباره بمطلق العدد على ما في حديث أبي ذر.
{وما كان} أي: ما صحّ، ولما استقام {لرسولٍ} منهم {أن يأتيَ بآيةٍ} مما اقترح عليه قومه، {إِلا بإذن الله}. فإنَّ المعجزات على تشعُّب فنونها، عطايا من الله تعالى، قسمها بينهم على حسب المشيئة، المبنية على الحِكَم البالغة، وهذا جواب اقتراح قريش على رسول الله الآيات؛ عناداً، يعني إنَّا قد أرسلنا كثيراً من الرسل، وما استقام لأحد منهم أن يأتي بآية {إِلا بإذن الله} ومشيئته، فمَن لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إِلاَّ أن يشاء الله، ويأذن في الإتيان بها؟ {فإذا جاء أمرُ الله} بهلاكهم، أو: بقيام الساعة، {قُضي بالحقِ} أي: بإنجاء المُحق وإثابته، وإهلاك المبطل وتعذيبه، {وخَسِرَ هنالك المبطلون} أي: المعاندون المقترحون للآيات، أو: المتمسكون بالباطل، فيدخل المقترحون المعاندون دخولاً أولياً.
الإشارة: فاصبر أيها المتوجه إلى الله على الأذى وحمل الجفاء، فإما أن ترى ما وُعد أهلُ الإنكار على الأولياء، من التدمير، وقطع الدابر، في حياتك، أو يلحقهم بعد موتك. ولقد أُوذي من قبلك، منهم مَن عرفت ومنهم مَن لم تعرف، وما صحّ لأحد منهم أن يُظهر كرامةً إلا بإذن الله، فإذا جاء أمر الله وقامت القيامة، قُضي بالحق، فيرتفع أهل الصبر من المقربين، في أعلى عليين، وينخفض أهل الإذاية في أسفل سافلين.


يقول الحق جلّ جلاله: {الله الذي جعل}؛ خلق {لكم الأنعامَ}؛ الإبل {لتركبوا منها ومنها تأكلون} أي: لتركبوا بعضها، وتأكلوا بعضها، وليس المراد: أن الركوب والأكل مختص ببعض معين منها، بحيث لا يجوز تعلُّقه بالآخر، بل على أن بعضاً منها صالح لكل منهما. {ولكم فيها منافعُ} أُخر غير الركوب، كألبانها وأوبارها وجلودها، {ولِتبلُغوا عليها حاجةً} أي: ما تحتاجون إليه من حمل أثقالكم من بلد إلى بلد، {في صُدورِكمْ}؛ في قلوبكم، {وعليها وعلى الفلك تُحملون} أي: وعليها في البر، وعلى الفلك في البحر تُحملون، ولعل المراد به: حمل النساء والولدان عليها بالهودج، وهو السر في فصله عن الركوب. والجمع بينها وبين الفلك في الحمل؛ لِمَا بينهما من المناسبة، حتى سُميت الإبل: سفائن البر.
وقيل: المراد بالأنعام: الأزواج الثمانية، على أن المعنى: لتركبوا بعضها، وهي الإبل، وتأكلوا بعضها، وهي الغنم والبقر، فذكر ما هُوَ الأهم من كلٍّ، والمنافع تعم الكل، وبلوغ الحاجة تعم الإبل والبقر. وقال الثعلبي: التقدير: لتركبوا منها بعضاً، ومنها تأكلون، فحذف بعضاً للعلم به.
{ويُريكم آياته}؛ دلائله الدالة على قدرته ووفور رحمته، {فأيَّ آياتِ الله} أي: فأيّ آية من تلك الآيات الباهرة {تُنكرون}؟ فإن كُلاًّ منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على إنكارها، و {آيات} نصب بتنكرون، وتذكير {أيّ} مع تأنيث المضاف إليه، هو الشائع المستفيض، والتأنيث قليل؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات، نحو: حمار وحمارة غريب، وهي في {أيّ} أغرب؛ لإبهامه.
الإشارة: ما أعظم قدرك أيها الإنسان إن اتقيت الله، وعرفت نعمه، فقد سلّطك على ما في الكون بأسره، الحيوانات تخدمك، وتنتفع بها، أكْلاً، وركوباً، وملبساً، وحملاً، والبحر يحملك، والأرض تُقلك، والسماء تُظلك، وما قنع لك بالدنيا حتى ادخر لك الآخرة، التي هي دار الدوام، فإن شكرت هذه النعم فأنت أعز ما في الوجود، وإن كفرتها فأنت أهون ما في الوجود. وبالله التوفيق.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9